بعد 50 عاماً من وفاة فرانكو… كيف تغيّرت إسبانيا؟
أخبار إسبانيا / خاص
تحتفل إسبانيا هذا العام بالذكرى الخمسون للديمقراطية, و هي محطة مفصلية للتأمل في واحدة من أسرع وأعمق التحولات السياسية في التاريخ المعاصر. فقبل نصف قرن فقط، كانت البلاد تخرج تدريجياً من حقبة طويلة من الحكم الديكتاتوري بقيادة الجنرال فرانسيسكو فرانكو، الذي حكم البلاد بقبضة من حديد منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1939 وحتى وفاته سنة 1975. وقد اتسمت تلك المرحلة بالرقابة المشددة، وتقييد الحريات العامة، وقمع المعارضة السياسية، إلى جانب مركزية الدولة وهيمنة قيم قومية محافظة حدّت من التعددية الثقافية والسياسية.
ومع وفاة الجنرال فرانكو، وجدت إسبانيا نفسها أمام مفترق طرق مصيري: إما الانزلاق نحو صراع سياسي يشبه ما عرفته في ثلاثينيات القرن الماضي، أو الشروع في عملية تحول منظّم نحو نظام ديمقراطي حديث. وقد كان اختيار الطريق الثاني نتاج توافق نادر بين النخب السياسية والملكية والمجتمع المدني، وهو توافق سمح بانطلاق ما يعرف بـ”مرحلة الانتقال الديمقراطي” والتي أصبحت نموذجاً عالمياً ملهما في التحولات السلمية.
و تولى الملك خوان كارلوس الأول، الذي تولى العرش مباشرة بعد وفاة الجنرال فرانكو، عملية التفكيك التدريجي لبنية النظام القديم, ورغم أن فرانكو اختاره خلفاً لضمان استمرار ما سماه «الحركة الوطنية»، فاجأ الملكُ الداخل والخارج بخطوات جريئة هدفت إلى فتح الساحة السياسية، وإطلاق الحريات، وتهيئة الإطار القانوني لنظام ديمقراطي تعددي. وفي هذا السياق، أُفرج عن المعتقلين السياسيين، وسمح بعودة الأحزاب التي كانت محظورة، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي، بينما بدأت الصحافة تستعيد دورها الرقابي والمهني, و كلها خطوات ساهمت بشكل كبير في تكريس و تعبيد الطريق نحو الديمقراطية.
إقرأ أيضا
غير أن الطريق نحو الديمقراطية لم يكن مفروشا بالورود, فقد واجهت البلاد مقاومة من المتشددين داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية، وكانت محاولة الانقلاب في 23 فبراير 1981 أبرز تجليات وجود جيوب مقاومة لأي تحول أو تغيير في النظام القائم. لكن وقوف الملك ليلة الانقلاب بخطاب حاسم، ورفض مؤسسات الدولة الانصياع للمتمردين عجل بفشله، مما شكّل لحظة مفصلية عززت مكانة النظام الديمقراطي ورسّخت الثقة الشعبية به.
وفي عام 1978، صوت الإسبان بأغلبية ساحقة على دستور جديد وضع الأسس القانونية للديمقراطية الإسبانية المعاصرة. وقد نصّ الدستور على الفصل بين السلطات، والاعتراف بالتعددية السياسية، وضمان الحقوق والحريات الأساسية، ومنح «الطوائف القومية» مثل كاتالونيا والباسك قدراً من الحكم الذاتي، الأمر الذي أسهم في استقرار البلاد رغم استمرار بعض التوترات الانفصالية.
بناء دولة حديثة ونموذج أوروبي
و مع ترسيخ الديمقراطية، دخلت إسبانيا مرحلة جديدة من تحديث مؤسساتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, حيث انضمت إلى الاتحاد الأوروبي عام 1986، مما فتح الباب أمام استثمارات ضخمة، وإصلاحات اقتصادية واعدة ساهمت في تحويلها إلى واحدة من أكبر الاقتصادات الأوروبية. كما تحولت من دولة مصدّرة للمهاجرين إلى بلد يستقبل مئات الآلاف من المقيمين الأجانب سنوياً، الأمر الذي أعاد تشكيل النسيج الاجتماعي وأضفى تنوعاً ثقافياً ملحوظاً عليه.

كما شهدت العقود الأخيرة توسعاً كبيراً في دولة الرفاهية، حيث تم تعزيز النظام الصحي والتعليم العمومي والبنى التحتية. كما شهدت البلاد تطوراً في الحقوق المدنية، خاصة فيما يتعلق بالمساواة بين الجنسين والاعتراف بحقوق الأقليات.
غير أن الطريق لم يكن خالياً من الإخفاقات, فقد واجهت البلاد أزمات اقتصادية حادة، أبرزها أزمة 2008 التي تركت آثاراً عميقة على سوق العمل، خصوصاً بين الشباب. كما استمرت التوترات الإقليمية، لا سيما في كاتالونيا، التي شهدت عام 2017 واحدة من أخطر الأزمات الدستورية في تاريخ إسبانيا الحديث. ورغم ذلك، أظهرت المؤسسات قدرة على امتصاص الصدمات وإعادة بناء التوافقات الضرورية للاستمرار.
اليوم، وبعد مرور خمسين عاماً على بدء الانتقال الديمقراطي، تقف إسبانيا أمام تحديات جديدة تتعلق بالشيخوخة السكانية، والهجرة، والتحولات الاقتصادية، وتغير المناخ، والاستقطاب السياسي. لكن التجربة التاريخية لهذا البلد تظهر أنه نجح في أكثر من مناسبة في تجاوز الأزمات العميقة عبر الحوار والتفاهمات الوطنية، مما يجعله واحداً من أكثر الديمقراطيات استقراراً في جنوب أوروبا.
احتفال الإسبان بخمسين عاماً من الديمقراطية ليس مجرد ذكرى رمزية، بل هو دعوة للتأمل في الطريق الذي قطعته البلاد، ولإدراك أهمية حماية المؤسسات الديمقراطية في مواجهة التحديات المستجدة. فقد أثبتت التجربة الإسبانية أن الانتقال السلمي من الاستبداد إلى الديمقراطية ممكن عندما تتوفر الإرادة المشتركة، وأن بناء دولة الحقوق يستغرق عقوداً من الجهد المتواصل، لكنه في نهاية المطاف يثمر مجتمعاً أكثر انفتاحاً وازدهاراً واستقراراً.




